نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
الدمام.. فلسفة الذكرى وتحولات الزمن! - شبكة أطلس سبورت, اليوم الأحد 23 فبراير 2025 09:09 مساءً
بقلم: عيسى المزمومي
حين يتأمل الإنسان شريط حياته، يجد أن الذكريات ليست مجرد أحداث مرت، بل هي أزمنة تُختزن في الوجدان، تحمل في طياتها الفرح والوجع، البهجة والحزن، والأمل واليأس. إن الذكرى ليست مجرد استرجاع لماضٍ مضى، بل هي نافذة نطل منها على أنفسنا، لندرك كيف كنا وكيف أصبحنا، وكيف شكلتنا الأيام بمطرقتها الثقيلة وسندان التجربة!
قبل أكثر من ثلاثة عقود، حملتني الأقدار إلى الدمام، حيث عشت متنقلاً بين أحيائها ومحافظات المنطقة الشرقية. استقر بي المقام في صفوى، وعملت هناك في القطاع الحكومي ثلاثة عشر عامًا. لم يكن عملي مجرد وظيفة، بل كان ساحة للعلاقات الإنسانية، حيث جمعتني الأقدار بأشخاص تركوا بصمتهم في روحي، منهم الراحل شاكر الشيخ، والزميل حسين العوامي، وغيرهم من الأصدقاء الذين صاغوا بأخلاقهم وصدقهم معاني الوفاء.
لم تكن الصحافة بالنسبة لي مجرد مهنة، بل كانت نافذة للحياة. خلال سبع سنوات مع صحيفة “اليوم”، ثم خمس سنوات مع “الوطن”، أدركت أن الكلمات ليست مجرد حروف، بل جسور تعبر من القلب إلى القلب. وفي تلك الصحف، عرفت رجالًا لن تُنسى مواقفهم، لأن الإنسان لا يُذكر بأقواله، بل بأفعاله التي تترك أثرًا لا يمحى.
الدمام التي عرفتها لم تكن كما هي اليوم. أحياء الضاحية والفرسان، التي كانت صحراء موحشة، تحولت إلى مخططات سكنية تنبض بالحياة. العمران امتد إلى حيث كان مطار الملك فهد مجرد رمال، وحيث كان طريق الرياض مضمارًا للخيل وخيامًا للشتاء. التغيير سنة الحياة، لكنه في كثير من الأحيان يأخذ منا أكثر مما يمنحنا.
في أقدم حي سكنته، حي الدواسر، اختفت ملامح الذكريات. رحل الأصدقاء، وغاب الكبار الذين كانوا يملأون المكان بحكاياتهم وحكمتهم. راشد فرحان الدوسري، اللاعب البشوش، لم يعد يطل بضحكته التي كانت تضيء المجالس. وحده الوالد الغالي العم : “عبدالله المريسل” بقي شاهدًا على زمنٍ جميلٍ مضى، حيث كانت الحياة أكثر بساطة، وأكثر دفئًا.
اليوم، أصبحت الدمام مدينة من الإسمنت والوجوه الغريبة، حيث استبدلت الألفة بالعجلة، والود بالانشغال. لم يعد “سوق الحب” كما كان، ذلك القلب النابض الذي كان يختزن حكايات الناس وأسرارهم. غادر سكان الأحياء القديمة، القزاز، العدامة، الخليج، الربيع، ولم يبقَ منها سوى أطلال الذكريات ودموع الحنين.
الإنسان قد ينسى لحظات الفرح، لكنها لحظات الحزن التي تترك الندوب العميقة في روحه. التكنولوجيا والحداثة فرّقت المجالس وجمّدت المشاعر في شاشات باردة، حتى غدت العلاقات كائنات افتراضية لا تعرف الدفء الحقيقي. ومع ذلك، يبقى الواجب الإنساني قائمًا: أن نحفظ الود، أن نرد الجميل، وأن لا نسمح للزمن بأن يسلبنا أجمل ما فينا.
حين أتيت إلى الدمام قبل ثلاثين عامًا، قيل لي: “ستجد أهلها أهل كرم ونخوة”، وحقًا لم يخب ظني. الدمام لم تكن مجرد مدينة، بل كانت قصة عشتها بكل تفاصيلها، وكانت درسًا في الحياة تعلمت منه الكثير. ورغم التغيرات والتبدلات، يبقى الأثر الذي يتركه الإنسان في قلوب الآخرين هو جوهر الوجود.
إن الحياة، في جوهرها، رحلة قصيرة، والرحيل قادم لا محالة. ما يبقى هو الذكرى، والسيرة العطرة، والأثر الطيب الذي يخلده الإنسان في قلوب من عرفوه. ولذا، فإن أجمل ما يمكن أن نتركه ليس المناصب ولا الممتلكات، بل لحظات من الخير، وابتسامات لا تُنسى، ووفاءً لا يتغير رغم تبدل الأزمنة.
الدمام ستبقى جزءًا من روحي، وذكرياتها ستظل محفورة في وجداني، لأن الماضي ليس مجرد وقت انقضى، بل هو جزء من تكويننا الذي لا ينفصل عنا مهما حاولنا!
0 تعليق